فتح مسار جديد في الملف النووي الإيراني: هل ستكون “اتفاقية القاهرة” فرملة طارئة لآلية الزناد؟

فتح مسار جديد في الملف النووي الإيراني: هل ستكون “اتفاقية القاهرة” فرملة طارئة لآلية الزناد؟
معرف الأخبار : 1684507

في ظل اقتراب موعد إعادة فرض العقوبات التي تفرضها الأمم المتحدة، والتي تلوح بظلالها الثقيلة على الملف النووي الإيراني، حدث تطور دبلوماسي مهم في القاهرة. في ليلة الثلاثاء 18 شوال، تم توقيع اتفاق حيوي بين إيران والوكالة الدولية للطاقة الذرية، حيث وقع عليه عباس عراقجي، وزير الخارجية الإيراني، ورودريغو غروسي، المدير العام للوكالة. هذا التفاهم، الذي تم بوساطة مصر، لم يمنح الدبلوماسية النووية الإيرانية نفسًا جديدًا فحسب، بل قد يفتح أيضًا مسارات جديدة لتأجيل آلية الزناد وربما لفتح باب المفاوضات مع الولايات المتحدة.

لفهم أهمية اتفاقية القاهرة، يجب العودة إلى الأجواء المتوترة التي تشكلت فيها. شهرا خرداد وتير 1404 شهدا توترات غير مسبوقة في برنامج إيران النووي السلمي. الهجمات غير القانونية التي شنتها الولايات المتحدة والكيان الصهيوني على المنشآت النووية الإيرانية غيرت شروط التعاون مع الوكالة. وقد أكدت المتحدثة باسم الخارجية الإيرانية أن استمرار التعاون أصبح مستحيلاً عندما تُستهدف المنشآت المشمولة بالرقابة. وقد نتج عن هذه الهجمات رد فعل حازم من مجلس الشورى الإسلامي، حيث أقر قانونًا يعلق بعض التعاونات مع الوكالة، وهو إجراء جاء نتيجة مباشرة للإجراءات غير القانونية ضد البنية التحتية النووية الإيرانية.

في ذات الوقت، قامت الدول الأوروبية الثلاث (بريطانيا وفرنسا وألمانيا) في 28 أغسطس بتوجيه اتهام لإيران بعدم الالتزام باتفاقية “البرجام”، وفعلت آلية تسوية المنازعات المتعلقة بالاتفاق، وحددت مهلة ثلاثين يومًا لإعادة فرض عقوبات الأمم المتحدة. هذا الإجراء الأوروبي، إلى جانب الهجمات العسكرية، أبرز جدية وسرعة المفاوضات بين إيران والوكالة أكثر من أي وقت مضى. في ظل هذه الظروف، بدأت سلسلة مفاوضات مكثفة بين طهران والوكالة بوساطة مصر وممثل السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي اعتبارًا من 5 سبتمبر في قطر، وانتهت أخيرًا إلى القاهرة. الهدف الأول لهذه المفاوضات كان إنشاء آلية جديدة لتنفيذ الالتزامات الرقابية الإيرانية وضمان استمرار التعاون، مع إدراك مشترك بضرورة الحفاظ على الرقابة بينما تؤخذ المخاوف الأمنية المشروعة لإيران بعين الاعتبار.

صيغة القاهرة؛ خطوة مؤقتة للحفاظ على الدبلوماسية

اتفاقية القاهرة، التي تُعتبر صيغة مؤقتة، تم صياغتها بناءً على المفاوضات الأخيرة بين طهران والوكالة. تفاصيل هذا الاتفاق تشير إلى أن إيران التزمت، خلال شهر من تاريخ التوقيع، بتقديم تقرير شامل إلى الوكالة الدولية عن مخزونات اليورانيوم المخصب لديها، بما في ذلك المواد التي ربما تضررت من الهجمات. بعدها، تدخل إيران والوكالة في مفاوضات لتحديد كيفية التحقق من التقرير، والتي تتضمن وصول مفتشي الوكالة إلى المواقع والقيام بتفتيشات ميدانية. هذا يعني استئناف الرقابة الدولية على البرنامج النووي الإيراني. من الجدير بالذكر أن جميع جوانب الاتفاق يجب أن تُصادق عليها المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني، مما يوضح ضبطًا دقيقًا من طهران على هذا المسار الحساس. هذا الاتفاق ساري حتى 18 أكتوبر 2025، ويمكن أن يشكل قاعدة لاتفاقات أطول أمدًا.

وردريغو غروسي، المدير العام للوكالة، سجّل في بيان بعد توقيع مذكرة التفاهم عن “نية حسنة ومسؤولية من الطرفين”، مؤكدًا أن «لا يزال هناك وقت لحل القضايا». هذه التصريحات تُعد مؤشرًا على رغبة الوكالة في المحافظة على القنوات الدبلوماسية ومنع تفاقم الأزمة.

تأجيل آلية الزناد ومسار عسير

السؤال المحوري هنا: هل نجحت اتفاقية القاهرة في تعطيل آلية الزناد؟ الجواب الصريح هو أن هذه الاتفاقية لا تمنع مباشرة أو بشكل قاطع تفعيل الزناد، لكنها قادرة على تأجيل تنفيذها. هذه الاتفاقية تشكّل أحد الشروط الثلاثة الأساسية التي طرحتها الدول الأوروبية لتأجيل الزناد. تلك الشروط هي: استئناف التعاون مع الوكالة، تقديم تقرير عن مخزونات اليورانيوم المخصّب، وبدء مفاوضات مع الولايات المتحدة. بتنفيذ أول شرطين، استطاعت إيران أن تجيب على جزء من مطالب أوروبا وتكسب بعض الوقت.

 

في نفس الوقت، بصفتها الرئيس الدوري لمجلس الأمن، أعدّت كوريا الجنوبية مسودة قرار تُلزم بإلغاء العقوبات على إيران بشكل دائم. لكن تمرير هذا القرار يحتاج إلى تسعة أصوات مؤيدة على الأقل، ولم تُفضِه الاعتراضات المحتملة من أحد الأعضاء الدائمين بمجلس الأمن (الولايات المتحدة، روسيا، الصين، بريطانيا، أو فرنسا). وإذا لم يحصل هذا القرار أو تمّت معارضته من أي من الدول الخمس الدائمة، فستُعاد العقوبات إلى الجدول. من جهةٍ أخرى، ترى إيران أن تبنّي مسودة القرار الروسي لتمديد القرار 2231 يمكن أن يفتح أفقًا أوضح أمام المفاوضات، وهو أمر تُعدّده إيران ممكنًا لكنه حتى الآن غير مؤكد بأن مجلس الأمن سيوليه جدية.

إيران من جهتها أعلنت صراحة أن أي إجراء عدائي ضدها، بما في ذلك إعادة فرض قرارات ملغاة لمجلس الأمن، سيُعتبر نهاية للتدابير العملية التي بُنيت عليها اتفاقية القاهرة. هذا الموقف الحازم يُظهر خطوطًا حمراء واضحة في مواجهة الضغوط الدولية. في الواقع، من خلال هذا الاتفاق، حاولت إيران أن تضع الكرة في ملعب الأطراف الأخرى، وتجعلهم يتحمّلون مسؤولية أي خطوة تصعيدية. بعد توقيع اتفاق القاهرة، برزت سيناريوهات أوروبية وأمريكية مفادها أن تفعيل كامل لآلية الزناد قد يُؤجَّل مؤقتًا لإتاحة فرصة أكبر للدبلوماسية، لكن هذا التأجيل لن يكون دائمًا ما لم تُتّخذ خطوات لاحقة.

الحديث مع الولايات المتحدة

من أبرز النتائج المحتملة وآفاقها الجديدة التي قد تفتحها اتفاقية القاهرة، إمكان بدء مفاوضات مع الولايات المتحدة. كل من عباس عراقجي وعلي لاريجاني، أمين المجلس الأعلى للأمن القومي، أشارا في تصريحاتهما الأخيرة إلى هذا الموضوع. عراقجي أكّد أن «إيران لم تغادر طاولة المفاوضات قطّ»، وأنها «مستعدة للدخول في برامج بناء الثقة الجديدة إذا تحققت رفع العقوبات وإنهاء التهديدات».

لاريجاني أيضاً، وإن اتخذ لهجة أكثر نقدًا، أكّد بقاء «الطريق مفتوحة للمفاوضات مع أمريكا»، لكن ربط الأمر بأسلوب واشنطن التي كثيرًا ما تتكلّم عن التفاوض دون أن تجلس على الطاولة. كما استعرض موضوعات مثل القيود الصاروخية التي طُرحت في المفاوضات السابقة، واعتبرها نماذج مفاوضات محكوم عليها بالفشل منذ البداية. بعض المحلّلين يرون أن بدء مفاوضات مباشرة مع الولايات المتحدة قد يُقلّل من الضغط السياسي على الوكالة والمدير العام لها (غروسي)، وربما يمنع إعادة فرض القرارات. غروسي بدوره أقرّ أنّ نجاح الوكالة واستئناف عمليات التفتيش داخل إيران سيخفض من التهديدات العسكرية.

لكن رغم ذلك، لا تزال الثقة العميقة بإيران تجاه واشنطن، خاصة بعد الهجمات التي شنتها إسرائيل على الأراضي الإيرانية بدعم أو مشاركة غامضة من الولايات المتحدة، قائمة ومتجذرة. طهران تشترط ضمانات بعدم التعدّي وعدم شنّ هجوم عسكري أثناء المفاوضات، وتؤكّد أنّ هذه الشروط تُعدّ دروسًا مستفادة من ماضٍ مُرّ. عراقجي صرّح صراحة أن إيران دائمًا مستعدة للمفاوضة، وحتى للقتال إن لزم الأمر، لكنها تفضّل الدبلوماسية شرط أن تجري في أجواء متوازنة ومنصفة. هذا الموقف “المزدوج” هو موقف محسوب يهدف من ناحية إلى تأكيد الانفتاح على المفاوضات لمنع بناء إجماع دولي ضدّها، ومن ناحية أخرى إلى طرح شروط لضمان المبادرة والمصلحة السياسية.

التغلّب على “لا حرب ولا سلام” وفزورة NPT

إلى جانب التطورات الدبلوماسية، الساحة الداخلية الإيرانية تشهد نقاشات حامية ومصيرية. في لقائه الأخير بالحكومة، شدّد قائد الثورة الإسلامية على نقطة محورية: «أن نغلب روح العمل والمبادرة على حالة لا حرب ولا سلام». هذه العبارة القصيرة هي ردّ على أحد التحديات التي تواجه البلاد؛ وهي الحالة المعلقة التي لا تحرّك، ولا تهدّئ، وتجعل الأوضاع جامدة وتفتقر إلى المبادرة. التفاهم مع الوكالة وفتح الباب للمفاوضات مع أمريكا يمكن أن يُنظر إليهما كمحاولة للخروج من هذه الحالة السلبية، وخطوة نحو نحو المستقبل الكريم.

وعلى الجانب الآخر، البرلمان في دورته الثانية عشرة يشهد مناقشات ساخنة ومكرّرة حول مقترح بخروج إيران من معاهدة عدم انتشار الأسلحة النووية (NPT) استجابةً لآلية الزناد. هذا المقترح العاجل، الذي يتطلب مناقشته دون تأخّر في الجلسة العامة، يحظى بدعم من تيّار “الاستقرار” والقوى المقربة من سعيد جليلي. شخصيات مثل كامران غضنفري وأبو الفضل ظهره‌وند يستندون إلى البند العاشر من معاهدة NPT، ويدعون إلى أنّ الخروج حقّ لإيران إذا انتهكت مصالحها الوطنية، معتبرين أنه لا سبب لبقائها في المعاهدة إذا لم تُحفظ حقوقها.

في المقابل، الأجنحة المقربة من محمدباقر قاليباف رئيس البرلمان تتّبع نهجًا أكثر حذرًا. قاليباف أكّد أنه “لا يجب أن نعمل بشكل متسرّع في مسألة NPT” وأن القرار النهائي ينبغي أن يُتّخذ من قِبل المجلس الأعلى للأمن القومي. أحمد بخشایش اردستانی، عضو لجنة الأمن القومي، يرى أنّ الشرع هو الفيصل في شأن الخروج من النَعْتُ المشترَك (NPT)، ولا يرى أنّ الخروج الكامل من المعاهدة هو الصالح، مقترحًا بدلاً من ذلك قانونًا يلزم بتعليق التعاون مع الوكالة حتى تُتوفَّر الضمانات المطلوبة لكي لا تُتهم إيران ببناء سلاح نووي.

مستقبل في ظلال الدبلوماسية النشطة

رغم طابعها المؤقّت، تُعدّ اتفاقية القاهرة خطوة مهمّة على طريق حفظ الدبلوماسية ومنع تدهور الأزمة. بإبرامها، أظهرت إيران تمسّكها بالدبلوماسية حتى في مواجهة الهجمات والإجراءات غير القانونية، دليلاً على أن حلًّا دبلوماسيًا ما يزال خيارًا مفضّلًا. لكن هذه التعاونات ليست أحادية الجانب.

إيران تتوقع من الوكالة والمجتمع الدولي الالتزام بالقانون الدولي، وإدانة الهجمات على منشآتها النووية، وعلى الوكالة أن تحافظ على الحياد والاستقلال المهني. في الأيام الأخيرة، ومع انعقاد الدورة الفصلية لمجلس الحكّام ومهلة آلية الزناد، سيكون الطريق أمام إيران مليئًا بالتحدّيات. قدرة طهران على إدارة هذه اللحظة الحرجة وتحويل هذا التفاهم المؤقّت إلى حلّ مستدام، تعتمد على التزام الأطراف بالدبلوماسية، وعلى الحصول على الضمانات الأمنية اللازمة، والعبور من الحالة “لا حرب لا سلام” إلى مستقبل كريم.

هذا الاتفاق يُشكّل فرصة قد تُؤدّي إلى خفض التوتر، لكن تحقيقه يتطلّب إرادة سياسية فعلية، والابتعاد عن أي عمل استفزازي من جميع اللاعبين. الآن هو وقت القرارات الكبرى، والإجراءات المستمرة، والسرد الذي يبعث الأمل؛ في هذا المضمار، لا مجال للتعليق ولا للجمود.

 

 

 

 

 

 

endNewsMessage1
تعليقات