رسائل بالنار والدبلوماسية... كيف يقرأ "حزب الله" ازدواجية الضغط الأميركي الإسرائيلي؟

رسائل بالنار والدبلوماسية... كيف يقرأ "حزب الله" ازدواجية الضغط الأميركي الإسرائيلي؟
معرف الأخبار : 1706360

فيما كان الإسرائيليون والأميركيون يقرعون "جرس الإنذار" بإمكانية الانزلاق مجدّدًا إلى المواجهة مع ​لبنان​، في حال لم يمضِ إلى إنجازات سريعة وملموسة لنزع سلاح "​حزب الله​"، تعمّد الأمين العام للحزب الشيخ نعيم قاسم اختيار مناسبة "رمزية" هي ذكرى مرور عام على تسلّمه منصبه ليوجّه سلسلة من الرسائل التي تتقاطع على عنوان الصمود رغم الخسائر، وربما التعافي، تحت شعار "لدينا من القوة ما لدينا"، و"التكتيك تبدّل".

وفي محاولة لاستعادة شيءٍ من الردع الذي كان "حزب الله" متفوّقًا على خطّه في زمن أمينه العام السابق السيد حسن نصر الله، كرّر الشيخ قاسم المقولة التي اشتهر بها الأخير عن أنّ الحزب لا يسعى إلى الحرب، " لكن إن فُرضت علينا سنقاتل"، مع تسجيل حرصه على عدم استبعاد احتمال الحرب بالمطلق، خلافًا للسردية التي راجت قبل الحرب الأخيرة، وكذلك على عدم الإفراط في إظهار "فائض القوة" كما كان قبل العام 2023.

لكنّ كلام الشيخ قاسم هذا لا يمكن قراءته بمعزل عمّا توصَف بالضغوط الأميركية والإسرائيلية، فعلى الأرض تكثّفت الخروقات والغارات الإسرائيلية، كما اتّسع بنك الأهداف خلال الأيام الماضية، في إيقاع يُراد له أن يضغط على الدولة والبيئات المدنية لا على الحزب وحده، وذلك بالتوازي مع انتشار سردية إسرائيلية في الإعلام عن "استعداد" لخيارات أوسع واحتمال انتقال إلى مرحلة أكبر إذا لم يُلبِّ لبنان الشروط المطروحة.

وسط هذه المشهدية، تتّجه الأنظار أيضًا إلى الحراك الأميركي الذي عاد إلى الواجهة بعد مرحلة من الجمود، أو ربما الانكفاء، حيث جالت الموفدة الأميركية مورغان أورتاغوس على الحدود من الجانب الإسرائيلي قبل قدومها إلى بيروت، في دلالة زمنية وسياسية على تزامن الضغط الإسرائيلي بالنار مع الرسائل الدبلوماسية. فكيف يقرأ "حزب الله" ازدواجية الضغوط الأميركية الإسرائيلية هذه، وهل يتعامل فعلاً مع الحرب كأنّها واقعة لا محالة؟.

 
 

من زاوية "حزب الله"، حملت مقابلة الشيخ قاسم التلفزيونية الكثير من المواقف التي يُبنى عليها، فهو رفع سقف الخطاب دفاعيًا، لا هجوميًا، إن صحّ التعبير، إذ أكّد أنّ وجود المقاومة "ردّ فعل على الاحتلال"، وأنّ وظيفة الدولة "منع العدوان"، معتبرًا أنّ استمرار الضغوط الأميركية يراد منه تحصيل ما عجزت عنه إسرائيل عسكريًا. ومع إقراره بأنّ الحرب تبقى احتمالاً، لجأ إلى "الغموض البنّاء" عند الحديث عن القدرات التي يمتلكها الحزب.

لكن ماذا يعني "الغموض البنّاء" عمليًا في لحظةٍ كهذه؟ يقول العارفون بأدبيّات الحزب إنّه يعني الامتناع "المقصود" عن كشف قدرات الحزب، والاكتفاء بإشارات مبطنة إلى "إحداثيات دقيقة" واختراقات استخباراتية، كما يعني أيضًا تحويل عبء القرار نحو الخصم، واستعادة شيء من الردع، من زاوية إدارة زمن الاشتباك ووتيرته. والهدف هنا مزدوج وفق العارفين: ترك هامش للمفاجأة عند الحاجة، وتفادي استدراج خصمه إلى ذروة مواجهةٍ لا يريدها الآن.

بهذا المعنى، يعمد الحزب إلى ترميم صورة القدرة على الإيلام، من غير أن يمنح تل أبيب الذريعة أو المشهدية التي تبحث عنها. وهنا لا تبدو رسائل "حزب الله" منفصلة عن قراءته للضغط الدبلوماسي الأميركي كمسعى لـ"تقريش" التفوق الميداني الإسرائيلي سياسيًا، وهو بذلك يوجّه الرسائل إلى الدولة اللبنانية في المقام الأول لعدم تقديم التزامات أو هدايا مجانية قبل تلمّس مقابل ملموس على الأرض، أو ما يوصَف بالضمانات بالحدّ الأدنى.

وفي السياق الدبلوماسي أيضًا، تلفت عودة القاهرة إلى الواجهة، في ظلّ حركة مصرية نشطة تشمل زيارة مرتقبة لرئيس المخابرات المصرية إلى بيروت، وسط حديث عن تنسيقٍ مصري-إسرائيلي حول آفاق التهدئة. ووفق المطّلعين على ما يُطرَح، فإنّ جوهر المقاربة المصرية معروف: فتح ممرّات وسطية تمنع الانزلاق إلى الحرب الشاملة، وتشغيل آليات تثبيت لوقف النار عبر خطوات متدرّجة يوازي فيها كل تراجع ميداني خطوةً لبنانيةً في الانتشار أو التنظيم.

كيف يتقاطع ذلك مع خطاب الشيخ قاسم؟ عمليًا، يوازن الحزب بين ثلاثة محددات: الحفاظ على "ردع أدنى كافٍ"، إن صحّ التعبير، أي إظهار قدرة محدودة لكنها مؤلمة، لمنع المواجهة الشاملة، وفي الوقت نفسه عدم إحراج الدولة أمام الموفدين الغربيين، وكذلك إعادة تطمين بيئته بأن الخسائر لا تعني سقوط وظيفة المقاومة، وأن معادلة "الدفاع" ما زالت قائمة حتى لو تبدّلت أدواتها.

على المستوى العملي، يلمّح الحزب إلى عناصر "ردع ذكي" بدل ذلك "الصاخب" الذي اعتمده في محطات تاريخية، وذلك من خلال إبراز عناصر استخبارية أو تقنيّة عند الحاجة (على شاكلة الحديث عن دقّة الإحداثيات). وإذا كان يهدف من ذلك إلى إبعاد الحرب وعدم استعجالها، فإنّ إسرائيل تحاول في المقابل إبقاء "خيار الحرب" حاضرًا على الطاولة عبر التسريبات واللغة العالية، لتضغط على قرار الدولة اللبنانية.

لكنّ الإبقاء على الخيار لا يعني الذهاب إليه فورًا، بحسب ما تقول أوساط سياسية متابعة، مشيرة إلى أنّ كل طرف يحسب الكلفة وسط توقعات بأنّ التهدئة الميدانية ستبقى هشّة بطبيعتها في المرحلة المقبلة، فالإسرائيلي سيواصل استخدام النار كورقة ضغطٍ تفاوضي، والأميركي سيضغط زمنيًا وإداريًا، والقاهرة ستحاول توسيع المنطقة الرمادية بينهما. ومن جهته، سيحاول "حزب الله" إبقاء ردعه في "المدى المتوسط" وتفادي الاستدراج إلى ذروةٍ لا يريدها الآن.

بهذا المعنى، لا تُعَدّ رسائل الشيخ قاسم إعلان مواجهة ولا إعلان تراجع. هي باختصار محاولة لإعادة بناء "توازن خوف" بجرعات محسوبة، بالتوازي مع ترك الباب مفتوحًا أمام وساطةٍ قد تمنح الجميع مخرجًا مقبولًا، والرهان على أنّ الغموض حيد يُدار جيّدًا، يخفّض الكلفة ولا يرفعها. هنا، يصبح المسار المصري-الدولي تحديدًا "فرصة" لتثبيت آلية تبريد فعّالة. لكن ماذا لو تعثّر هذا المسار، وعاد ميزان النار إلى الواجهة؟ حينها سيُختبر ما إذا كان ردع الحزب بجرعاتٍ محسوبة قادرًا على كبح التصعيد، أم أنّ الضغط المركّب سيعيد فتح باب المواجهة.

النشرة

endNewsMessage1
تعليقات